أما وقد عاد شبابنا من تركيا الى لبنان ليدفنوا في ترابه، واسترجعنا جرحانا ليعالجوا في مستشفياتنا، لا بد من الابتعاد عن لغة المشاعر قليلا والاضاءة على "سقطات" مدوّية لإعلامنا وشارعنا ومشاعرنا، عسى "رحيل" الياس وارديني وريتا الشامي وهيكل مسلم، يشكل "بقعة" ضوء في نفوس مظلمة.
استيقظ اللبنانيون في صباح اليوم الأول من السنة الجديدة على خبر مفجع، فتركيا تعرضت لهجوم ارهابي وسقط من بين الضحايا لبنانيون. تفاعل الخبر، واختارت احدى الوسائل الاعلامية اللبنانية أن تجعل من الحادثة قضيّتها الخاصة وهذا حقها الطبيعي لا بل واجبها وواجب غيرها من الوسائل الاعلامية، ولكن السقطة الأولى كانت في "رمي" الأخبار قبل التأكد من دقّتها. لم تستطع الوسائل الاعلامية "المنافسة" البقاء على الحياد، فلعبة "الرايتنغ" تستحوذ على العقول، فبدأت المعركة الاعلامية بين متنافسين على "الهواء"، متلاعبين بمشاعر "أهل الضحايا والجرحى"، ومن خلفهم مشاعر اللبنانيين.
كثيرة هي الاخبار المغلوطة التي تناقلها الاعلام ككل، ونذكر بخبر "نجاة" اللبناني هيكل مسلم بعد أن رمى بنفسه في نهر البوسفور، والحقيقة أن الضحية تلقى رصاصة في جسده وفارق الحياة، كذلك خبر اعلان وفاة الشاب الياس ورديني بعد أن رمى بنفسه في نهر البوسفور هربّا من الهجوم الارهابي، بينما تقول شقيقته أنه تلقى رصاصات الإرهاب في جسده خلال محاولته حماية خطيبته، ومن ثم كان الخبر الصدمة "ريتا الشامي نشرت فيديو خلال السهرة قبل العملية الارهابية"، وكانت الحقيقة أن ريتا صاحبة الفيديو ليست نفسها الضحيّة، وأن المكان المصور ليس في تركيا، مع الإشارة هنا الى أن المرجع الرسمي اللبناني في أمور كهذه أي وزارة الخارجية اللبنانية كانت آخر من أعلن عن أسماء ضحايا الهجوم الارهابي، لأنها انتظرت التأكيدات الرسميّة الآتية من قنصلية لبنان في تركيا.
اما السقطة الثانية للإعلام فكانت من خلال عمليات "النقل المباشر" فالكاميرا دخلت ليس الى بيوت الضحايا وحسب بل الى داخل "عيون" والد ريتا المفجوع وهو يصرخ من شدّة الحزن، والى "حضن" شقيقة الياس، وخصوصيات كل افراد عائلات الضحايا. هنا قد يسأل البعض "لماذا تسمح العائلات للوسائل الاعلامية بالدخول الى المنزل"؟، حسنا لا يهمّ، فإن كانت العائلات غير مدركة لما تفعل أو تظنّ أنها بالنقل المباشر قد تفعّل القضية فيعود الضحية من الموت، لا يعني أن يستغلّ الاعلام هذا الواقع فيتناسى "أخلاقيات" المهنة لأجل "نسب" المشاهدة.
يكفي أن نشاهد الوسائل الاعلامية الغربية كيف تتصرف في ظل "الأزمات"، والإعلام الفرنسي خير مثال على ما نقول. وفي هذا السياق يرى العميد السابق لكلية الإعلام الدكتور جورج كلاس، في حديث مع "النشرة"، أن "المواكبة الإعلامية لإعتداء اسطنبول الإرهابي، من جانب المؤسسات الإعلامية اللبنانية، كانت غير إحترافية وغلب عليها السبق على الإحتراف، وغابت عنها الأخلاق الإعلامية ومسؤولية الصورة والكلمة"، مشدداً على ضرورة أن يكون هناك قواعد صلبة وجيدة "لأن الإعلام بدأ يتدهور بعد أن كنا روّاد النهضة الإعلاميّة العربيّة".
لن نطيل الحديث عن "الاعلام"، فسقطة "الشارع" اللبناني لم تكن أقل خطورة، فبين تسمية الضحايا بـ"الشهداء" او "القتلى" ضاعت المشاعر الوطنية التي نادرا ما تظهر في لبنان. يشكل هذا الواقع خطرا جسيما على مجتمعنا "المفتّت" أصلا بفعل الانقسامات الطائفية والمذهبية، إذ لا يمكن اعتبار "شماتة" لبناني بموت لبناني، أمرا عاديا. إن ثقافة "الشهيد" و"القتيل" هي صنيعة "شارعنا" و"إعلامنا"، فأصبحت صفة "القتيل" استخفافا بالضحية أو حتى شماتة به، وأصبحت صفة "الشهادة" مفخرة لكل فئة تريد إظهار اعتزازها بموتاها، وساهم الإعلام الموجّه والحزبي بتثبيت هذه المعادلة، فيلصق لقب "شهداء" بالضحايا الذين يمثلون خطّه، ويطلق تسمية "القتلى" على المعارضين لنهجه، فتوطدت ثقافة "القتيل" و"الشهيد" في نفوس اللبنانيين حتى بتنا اليوم نتصارع ان كانت الضحيّة "شهيدة" أم "قتيلة"، وبالتالي إن كانت تستحق الرحمة أم لا. يا لعار هذا الوطن.
غابت المشاعر الوطنية عن قلوب اللبنانيين بسبب اختلاف وحدة المعايير لدى الشعب والإعلام، فالمسؤولية مشتركة هنا، ومن واجب الاعلام أن يجيب اللبنانيين الذين يسألون عن سبب الاهتمام بقضيّة دون سواها، رغم تطابق "الموت" فهو واحد. إن هذا المشهد جعل بعض الأفراد من الفئة التي تعرّضت "ضحاياها" للإهانة إبان التفجيرات الارهابية التي ضربت لبنان من قِبل فئة أخرى، تردّ "الإهانة" اليوم، وكأن هذه الضحيّة تختلف عن تلك، وكأن الموت "ظلما" لا يكفي لتوحيد المشاعر الحزينة. أنه "زمن أسود بشع"، والأكثر بشاعة هو التلطّي خلف الدين عند إطلاق الأحكام، وكأن "الجنة" و"النار" موجودتان بيد هؤلاء القابعين خلف شاشاتهم الذكية، في بيوتهم أو مؤسساتهم، يصنفون الضحايا ويطلقون التسميات، مع العلم أن "القرآن الكريم" قال في سورة عمران "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"، والقرآن هنا قال "قتلوا"، وبالتالي فإن صفة "القتيل" ليست "عارا" كما حولها اللبنانيون.
لكل انسان دينه والحرية باتباع التعاليم الدينية التي يشاء، وكل "ضحايا" الارهاب هم "ضحايا مظلومون"، فالارهاب عندما يفجر ويقتل لا يفرق بين دين وآخر، ولا يفرق بين حزب وآخر، انما "نحن" الذين نفرق، ونحن الذين نصنع "الكره" بين بعضنا البعض، ونحن الذين نجعل لبعض الضحايا مرتبة عليا ولآخرين مرتبة أدنى. فقط في لبنان "يُقتل" المرء ضحية الإرهاب مرتين، مرة اولى برصاص "الارهابي"، ومرة ثانية "برصاص" الحقد والتفرقة.